حين ينتبنا الحنين نعود لنقلب دوما كراسة ذكرياتنا، فنسترجع أحلاها ونقف على أطلال أمرِّها، هي معادلة الحياة التي تعد ناقصة بدون ذاك الماضي الذي يأخذ شوطا من حياتنا.
حنيني إليها لا يقل قدرا عن حنيني لأمي فكلا هما احتضنني وضمني، وشعوري نحوها لا يتغير مع مرور الأيام، ورغم البعد كذب من قال "بعيد عن العين بعيد عن القلب" لأنني بقدر ما ابتعدت عنها زاد عشقي لها.
حنيني لكل ما كان فيها، لتلك الحقبة الزمنية، للاماكن للأهل تلك المدينة بغداد الرشيد، وكم يقتلني ذاك الحنين أوقاتا وكم يدب في الروح لحظات، فكل حركة أو سكون يذكرني ببغداد، فماذا يفعل أسير الحنين بين فكي الماضي الجميل والحاضر الأليم.
البلديات، الطوبجي، الزعفرانية، الدورة، والحرية... آه يا تلك القلاع التي كلما تحدثت عنها ضاع نثري وتلعثم شعري، شعور بغربة يجتاحني حتى وإن كنت بعقر داري، فهكذا نحن لا نخون المكان ونتمنى لو يعود الزمان لنعود إلى ذات المكان، فرغم أنني محاط بأهلي أحن لأهلي القدامى لأن الذي كان يجمعني بهم أكبر بكثير من أن يوصف بكلمات أخشى أن لا أتقن انتقاءها.
ورغم أن جل أهلي غادروا العراق ولم يبق به إلا القلة القليلة فمكانته بقلبي لم تنقص بل زادت، إلى درجة توسعت فيها رقعة صمتي، وبلغت سيول دمعي الدجلة والفرات، وأنين حنيني حرك المتنبي وأبو نواس فالي أين تسري يا قتيل الشوق؟!
كلما نظرت لأبنائي وهم ماضون إلى مدارسهم تذكرت مدرستي الحبيبة العودة أين نطقت أولى حروفي السل وكتبت أولى كلماتي، أ فليس الوقوف احتراما وتبجيلا لتلك المدرسة وتلك الأرض التي عليها أساس المدرسة واجب؟! عندما اختنق من دخان الذكرى لا أجد ملاذا سوى البحر ولكنني أول ما أصل الشاطئ تعلو أمواجه بقدر ما يعلو صوت نحيبي ... مزقني الحنين أجل لقد فعل .. وعلى وقع نغمات عراقية رددها الراديو ألهب صوت ناظم الغزالي حمم أشواقي، فيا أيتها الأرض علميني كيف أقسو وأنسى كما علمتني كيف أحن وأتذكر.
بقلم: أبو حق
